اضطر للتوقف المفاجئ على جانب الطريق السريع استجابة لإلحاحها ، لم يدر ماذا تريد في مثل هذا المكان النائي ، و في مثل هذا الوقت من الصباح الباكر .
تمنى فقط أن تكون بخير ، و ألا يتأخرا على الميعاد .
...
كانت تشعر بتلك الرغبة بداخلها تحرقها ، تجعلها تتوق و تتشوق ، تتمنى و تحلم ، فلما لم تعد تطيق وجدت نفسها تصرخ فيه مطالبة بالتوقف .
كانت سرعته الفائقة تربكها ، و تشعرها بالعجز و الشلل ، و لم تكن تقوى أبدا على التخلف ، و لا على أن تطلب منه أن يبطئ من سرعته .
...
تأملها تنزل من السيارة بلهفة ، تنظر فيما حولها رافعة وجهها الشاحب إلى السماء ، بدت له كأنما هي تتشمم الهواء .
بدأ يفكر في النزول ليسألها عما بها ، و رآها تنظر إلى ما دون قدميها كأنها تبحث عن شيء عزيز فقدته هنا ، ثم بدأت تدور حول ذاتها .
الآن بدأ يشعر بالقلق الحقيقي .
...
أبطأت سرعتها و هي تنزل ببصرها تنظر إلى الحقول الممتدة أمامها ، الألوان و الأشكال تختلف عما اعتادت رؤيته كل يوم ، رائحة الهواء البارد بدت لها منعشة لطيفة .
أدهشتها حقيقة أنها تمر بهذا الطريق بشكل يومي منذ سنين ، و الآن تكتشف أنها تراه للمرة الأولى .
ضيقت عينيها و هي تحدق في تفاصيل الأشياء ، كانت تعب مما ترى لتروي روحها العطشى ، انحنت على جانب الطريق في محاولة لالتقاط أصغر التفاصيل .
...
كان واجبه يحتم عليه أن يترجل الآن ليفهم ما الأمر ، يجب عليه أن يكون بجوارها عندما تحتاج إليه .
فكر أن عملهما لا يسمح لهما بالتواجد معا لفترات كافية ، حتى تلك الأوقات التي يجتمعان فيها لا يجدان الحالة النفسية المناسبة لكي يكونا معا ، ربما عليه أن يخطط لأجازة أفضل لهذا العام ، فكر في هذا و هو ينحني بجوارها يحاول رؤية ما تنظر إليه .
...
كان إحساسها بالفقد ، و الاحتياج ، و العطش ، و الشوق ، كانت كل هذه الأحاسيس تتضح أمامها الآن ، و تتحول إلى حاجة ملموسة لأن تحتضن كل ما تشتاق إليه ، كانت تحتاج إلى أن تمسك بيديها كل ما تقرأ و تسمع عنه من حب ، و دفء ، و حنان ، و رحمة .
لم تفهم كلماته المتسائلة ، و لم تشعر بالقلق المتساقط من بين حروف صوته ، لم تكن معه في هذه اللحظة ، كما لم تكن معه أبدا من قبل .
...
كان قلقه الآن يتحول إلى ذعر مما تفعله ، إنها لا ترد عليه ، و تبدو كما لو كانت قد فقدت رشدها تماما ، جلست بملابسها الفاخرة على الأرض العشبية ، غرست أظافرها في طين الأرض ، اغترفت من الأرض ما يكفي لذهوله .
تلمس الهاتف في جيبه ، لا يعرف بمن يتصل كي يتصرف ، لقد اعتاد أن يحل أي مشكلة بمكالمة واحدة ، و لكنه لا يعرف ماذا عليه أن يفعل ، إنه حائر تماما .
...
تخلت عما في يدها ليضيع في الهواء ، بعدما أمسكته لوقت كاف ، ثم قامت بهدوء لتعود إلى السيارة ، لقد كانت تتحرك بثقة و تصميم ، لقد جعلها مذاق الأشياء الصغيرة تعرف ما تريد تماما .
ابتسمت له ابتسامة مشجعة ، و قالت : "أنا راجعة مصر" .
...
دار حول السيارة و هو مضطرب ، كان يفكر فيما عليه أن يفعله الآن .
* اللوحة للفنان محمد حجي