31 أكتوبر 2009

الاتجاه الصحيح

كنت أجلس منذ أيام قليلة مع صديقي الذي أسلم حديثا .

الاتجاه الصحيح لم يكن الله قد أنعم عليه بنعمة أن يولد لأهل مسلمين ، و لا أن يتكلم أو يفهم اللغة العربية كأهلها ، و لا أن يتاح له أن يقرأ أو يسمع الكثير مما يرشده في طريقه و يذكره دائما ، و مع ذلك فقد أنعم الله عليه بنعمة البصيرة ، و القدرة على البحث عن الحقيقة .

الشهادة

كان قد قرأ خلال عدة سنوات عن الإسلام ، بل و دفعته الأسئلة ليبحث في دينه القديم عن إجابات ، لم يكن مجتمعه يرحب بهذا التحول ، و لكن هكذا استمر حتى وجد نفسه ينطق بالشهادتين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، و أشهد أن محمدا رسول الله .

سألت نفسي : و كيف "شهد" بالوحدانية لله تعالى و بالرسالة لمحمد صلى الله عليه و سلم و لم يرهما ؟ كيف توصل إلى هذه الحقيقة الغالية ؟ و كيف لا يتوصل بعض المسلمين إلى حقيقة هذه الشهادة ؟ و هل يمكن أن يصبح كل المسلمين أو جلهم على هذه الدرجة من الفهم و الاقتناع ؟

قدمت لنا زوجته الطعام ، لم تسلم بعد ، و لكن طعامها حل لنا .

الاتجاه المعاكس

استطاع صديقي بتوفيق من الله أن يتعلم أساسيات الإسلام ، يستطيع أيضا أن يقرأ القرآن ، و لكنه لا يفهم إلا الترجمة ، يقابل العديد من المسلمين ، و يتمنى أن يتواصل معهم بشكل أكبر ، و لكن تقف اللغة حاجزا ، و لذلك قرر أن يتعلم اللغة العربية بشكل كامل ، و لكن عليه أولا أن يخطط لهذا بما يحمله من سفر و وقت و مجهود و تكاليف .

ودعته قبل سفره بساعات ، و نزلت إلى الطريق ، أرى مصر مزدحمة ، الكثير من الناس يسيرون في اتجاه ، و في الناحية الأخرى أرى صديقي و غيره يسيرون في الاتجاه المعاكس . أم ترانا نحن الذين نسير في الاتجاه المعاكس ؟

متى نحل أزمة السير في بلادنا ؟ متى نتعلم الاتجاه الصحيح ؟ متى نحترم الإنسان و نصبح أصحاب حضارة من جديد ؟

ماذا سيكتب عني ؟

كنت أفكر فيما يفعله صديقي بعد عودته لبلاده ، ترى ما الانطباع الذي تركته و غيري من المسلمين لديه ؟ ترى لو جلس ليكتب مقالا يقول فيه :

كنت أجلس منذ أيام قليلة مع صديقي الذي ولد مسلما .

ترى ماذا سيكتب عني ؟ ترى ماذا يقال عنا الآن ؟

 

* اللوحة للفنان محمد حجي

 

* توفي إلى رحمة الله الدكتور مصطفى محمود صباح اليوم السبت 31 أكتوبر ، بعد ثلاثة أسابيع من موضوع مصطفى محمود و لغز الحياة . إنا لله و إنا إليه راجعون ، لم يتم تكريم الدكتور في حياته ، و أسأل الله تعالى أن يكون تكريمه في الفردوس الأعلى ، و أن نستثمر علمه بالشكل الأمثل ليكون صدقة جارية له بعد وفاته .

25 أكتوبر 2009

الباحث عن الحقيقة

الباحث عن الحقيقة كان يقضي أيامه مشغولا كعادة البشر بالواقع المألوف ، فمن بحث عن عمل ، إلى بحث عن زوجة ، إلى بحث عن سكن .

كان يقضي حياته بعيدا عما يريد حقا ، كان يحتاج إلى البحث عن ذاته .

لم يقتنع يوما أنه إنسانا عاديا مثل ملايين البشر ، فبرغم ظروفه العادية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها ، إلا أنه دائما ما حسب نفسه مختلفا ، كان يعتبر نفسه باحثا عن الحقيقة .

كانت عادته أن يفكر في أصل الأشياء ، يبحث عن الأسباب و الدوافع ، لا يقتنع بالتفسير المألوف لواقع الحال ، كانت النظرة الخبيرة لكبار السن تثيره ، و النظريات العلمية تربكه ، و الأساطير و الموروثات بعيدة عن الواقع ، و كلمات الدين لا تسعفه ، بل و حتى تأملاته الخاصة لا تصمد لتغير الظروف و المواقف ، فيعود لينقض غزله من بعد قوة .

...

تمثل له الخلاص عندما استطاع الحصول على مصدر رزق يمنحه حريته المالية ، و بالتالي يساعده على أن يستقل في حياته ، كان يراسل المجلات و الدوريات لنشر أبحاث و مقالات مترجمة ، و كان يجتهد في العمل عندما يحتاج إلى المال ، و يتوقف أو يتلكأ عندما تقل حاجته للمال ، و هكذا بدأ البحث الحقيقي عما يقلقه .

قرأ كل شيء ، اجتهد في البحث في الكتب عن اجابات الأسئلة الكبرى ، آمن أنه يستطيع معرفة أصل الحياة ، من أين جاء الإنسان ، و إلى أين يذهب ، ما سبب آلام الناس ، و ما حكمة العذاب ، و هل من سبيل لرؤية الغيبيات ، و ما هو أصل الأديان ، و ما أسباب اختلافها ، و كيف يفسر التاريخ ، و إلى أين ستؤل الأمور ، و كيف يكتشف ما هو آت ، و ملايين الأسئلة التي تبدأ لتدور و تفضي إلى بعضها البعض ، ثم تتحول إلى دوامة كبيرة .

جرب الفلسفة ، و قرأ في الدين ، و تابع آراء مفكرين ، و قرر ألا يثق إلا فيما يصل إليه بعقله ، و أن يختبر ما يتعلم حتى يصل إلى الحقيقة ، و هكذا وجد نفسه محاطا بأفكار و كلمات بلا حصر ، و محاصرا بأوراق عتيقة و حديثة ، متأرجحا ما بين الطلاسم و العلم ، و أخذ يخط ما يصل إليه من خلاصات و تجارب على مدى السنين .

...

يد الحقيقة تغير حاله مع الوقت ، ففقره يتزايد ، و انعزاله عن الناس جعله ينفصل عن الواقع اليومي ، و مع ذلك لم يكن هذا كله ما يقلقه ، و لكنها الحقيقة التي يبحث عنها ، و التي أخذت تبدو كمعنى مراوغ ، فبرغم تسويده لآلاف الصفحات ، و التي يعتبرها خلاصة السنين ، و لكنه يدرك أن ما بها من الأسئلة أكثر من الأجوبة بمراحل ، و الأدهى أن الأسئلة كانت تزداد و تتعاظم ، و لا يوجد مؤشر يدل على قرب بلوغ أهدافه .

كان قد تعلم في خلال هذه الفترة الكثير مما يمكن أن يتعلمه من الكتب ، و ها هو يشك من جديد ، و ها هو يفكر - الآن - في أن يتخلى عن كل ما توصل إليه .

و في غمرة حيرته وجد نفسه يهيم في الشوارع مفكرا ، باحثا عن مخرج لورطته ، أخذ ينظر للناس في حقد ، إنه يؤمن أن أحدهم لا يرى أبعد من أنفه ، و مع ذلك يبدون و كأنهم متصالحين مع أنفسم و حياتهم برغم كل ما يكتنفها من غموض و أسئلة ، إنهم أقرب للبهائم التي تعيش أيامها بلا تفكير ، و لكنهم على الأقل يمتلكون الحياة ، و هو الآن يفتقدها ، فهل الخطأ في الأسئلة أم في المنهج ؟

...

نار الحقيقة جلس بين يدي الشيخ و قد أعيته الحيله ، بعدما أعياه المشوار ، تساءل في كلمات قليلة و طلب النصيحة ، فقال الشيخ :

- و هل ما زلت تبحث عن الحقيقة ؟

- بل إنني على استعداد للموت في سبيلها .

- و هل أنت على استعداد لتقبل النصيحة ، حتى و لو كانت تعني أنك قد سلكت الطريق الخطأ ؟

- إن قلبي يخشى الألم ، و لكن نعم ، فهل لديك القدرة لتعلمني ؟

- لن أعلمك شيئا ، فأنت تعرف كل ما تحتاج إليه بالفعل ، و لكنني سأدلك فقط إلى الطريق .

- و ما هو ؟

- يا بني إن ما تبحث عنه لن تجده في أي كتاب ، ليس لأن أحدا لم يبحث عنه من قبل ، و لكن لأن للعقل حدود ، كما أن للعلم حدود .

- هل تعني أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة ؟ ألم تقل أنك ستدلني إلى الطريق ؟!

- دعني أسألك أنا ، كيف ستستخدم ما تعلمت لخدمة الناس ؟

- و من قال أن هذا ممكنا ؟ أنا حتى لا أعرف ما الذي سأصل إليه .

- يا بني لا قيمة للعلم بدون عمل ، و لا قيمة للعمل بدون هدف ، و لا هدف بدون فهم للحقيقة .

- أنت تعود بي إذن إلى بداية المشوار .

- أنت لم تفهم ، إن الرحلة نفسها هي المنتهى .

ما قيمة المعرفة التي لا تترجم إلى حياة ، و التي لا تتحول إلى تغيير في حياة الناس ؟ ما قيمة الصلاة التي لا تنهى عن المنكر ؟ و ما قيمة الحقيقة ذاتها إذا كانت لا تفضي إلى واقع أفضل ؟

إن روعة الحياة في أن تحياها ، في أن تؤثر فيمن حولك لتترك أثرا له معنى ، في أن تكون عامل إصلاح و بناء ، لا عامل هدم أو إفساد .

إن الدين يجيب على الأسئلة الكبرى التي تبحث عنها ، و لكن من خلال تربية الإنسان على أن يكون هو الإجابة الصحيحة .

...

سار صاحبنا يتلمس سبيل العودة .

و هكذا وجد نفسه يبدأ البحث من جديد .

 

* اللوحة للفنان محمد حجي

17 أكتوبر 2009

من أين تأتي الأفكار ؟

من أين تأتي الأفكار ؟ كثيرا ما يتعرض الكتّاب للسؤال عن كيفية حصولهم على أفكار جديدة ، و كذلك يحدث مع الموسيقيين و الرسامين و المصممين أو حتى القادة العظام ، و غيرهم من المبدعين ، و يظل السؤال بلا إجابات واضحة ، و يظل "الإبداع" أو الحصول على أفكار جديدة هو مصدر الاعجاب الأساسي بالمبدعين ، ربما لأن الآخرون يرون في هذه الموهبة شيء يفتقدونه في أنفسهم .

و من المثير للاهتمام أن أفكار المبدعين كثيرا ما لا تختلف عن أفكار معظم الناس ! و لكن الذي يميز هؤلاء المبدعين هو قدرتهم على الثقة في أفكارهم ، و الثقة في أنهم يستطيعون تحقيقها ، و هذا يتطلب على الأقل معرفة توفر المهارات اللازمة لديهم للاستفادة من الأفكار البسيطة ، و تحويلها إلى شيء له معنى ، ثم العمل على هذه الأفكار لاستثمارها .

أما بقية الناس فهم يرفضون العمل على تطوير هذه الأفكار و الاستفادة منها ، رغم أن هناك الكثير جدا من المجتهدين في كل مجال ، و الذي يتميزون فيه إلى درجة الإبداع ، رغم أنهم في حقيقة الأمر لا يتمتعون بقدرات إبداعية خاصة ، و إنما لديهم فقط المهارات الكافية لتطوير أفكارهم .

و هكذا فالفرق الأساسي بين المبدعين و غيرهم هو الإصرار على التعامل مع الأفكار ، و تطويرها ، و تطوير النفس ، و ترك فكرة عدم القدرة على الإبداع أو مجرد تفضيل الخلود إلى الراحة .

مصادر الأفكار

هناك مدرستين حول مصادر الأفكار :

1 – الإلهام : هذه المدرسة تصور الفنان كهوائي الراديو الذي يبحث عن الأفكار في الأثير ، ينتظر فقط اللحظة المناسبة و الإشارة القوية التي ينتج عنها التقاط شيء جديد ، و يرتبط به كل ما يقال عن شيطان الشعر ، و الاستيقاظ من النوم للتأليف في ساعات الليل الأخيرة ، و الحاجة إلى الحالة الشعورية المناسبة للحصول على الفكرة الجديدة .

2 – العمل : المدرسة الثانية ترى أن الأفكار هي نتاج عمل شاق وتفكير مركز ، فبوجود الأدوات اللازمة و الوقت المخصص و التركيز على هدف محدد يمكن الحصول على أفكار جديدة يوميا ، كما كان يفعل الأديب الراحل نجيب محفوظ ، و هكذا تأتي الأفكار عن طريق العمل .

و الأرجح أن الواقع هو مزيج من العاملين ، إن الأفكار تأتي من النشاط الفاعل للإنسان مع العالم من حوله ، عن طريق الانتباه الواعي ، و الفضول ، و بذل المجهود ، و الاستفادة مما يصادفه في حياته .

الإعداد

تأتي الأفكار لمن كان مستعدا لتلقيها ، بغض النظر عن مصدر هذه الأفكار ، فالعلماء تأتيهم أفكار علمية ، و لا يفاجأون بكلمات قصيدة شعرية ، و الموسيقيين يحولون ما يفكرون فيه إلى أنغام ، و الكتاب المهرة يخلقون القصص الجميلة ، بينما لا يجد أفكارا جديدة من لم يعد نفسه لها سواء بالدراسة أو العمل أو متابعة ما يبدعه الآخرون .

الانتباه

مراقبة العالم من حولنا ، ما بين ما يحدث في الشارع إلى ما نراه في عناوين الأخبار ، كلها مصادر للأفكار ، فالحاجة أم الاختراع ، و لكن يجب أن ينتبه المخترع أولا إلى الحاجة إلى إختراعه .

الفضول

غالبا ما يأتي الإبداع من الدافع لفهم الأشياء و تحليلها ، إنه نابع من الرغبة في معرفة المآلات ، و متابعة التساؤل حتى الوصول إلى أفكار جديدة لم تطرح من قبل ، أو بنفس الطريقة .

المجهود

سواء كنت تتبع أي من المدرستين ، فالإبداع يتطلب بذل المجهود ، فالأفكار متاحة ، و لكن التنفيذ يتطلب تطوير الأفكار ، و متابعتها ، و وضع خطة لتنفيذها ، و إلا فإن الأفكار ترجع من حيث أتت ، و نادرا ما تعود ثانية .

الصدفة

و هي مزيج من عاملين ، الأول هو وجودك أنت بالذات في المكان و الوقت الصحيحين ، و الثاني هو قدرتك على ربط الأشياء بشكل جديد ، فمثلا خدمت التفاحة نيوتن عندما سقطت في المكان و الوقت الصحيحين ، كما أنه استطاع أن يربط بين التفاحة و الفيزياء ، أي شخص آخر كان ليأكلها قبل أن يفكر !

و هكذا يجب على هذه العوامل أن تتفاعل معا لتنتج الأفكار ، و هي كما تلاحظ ممكنة التوظيف من قبل أي إنسان ، فليست متعلقة بموهبة حباها الله لعدد قليل من عباده ، و إنما يمكن عدها بعضا من نعم الله علينا جميعا ، و هي لا تنطبق فقط على المبدعين من الفنانين ، و إنما أيضا على القادة و المهندسين و المعلمين و الإداريين و البائعين و العمال ، بل و على كل من قد يتعرض لمواقف تتطلب حلولا إبداعية ، و لكنه قد يفتقد الاستعداد و الانتباه و الفضول و المجهود اللازمين .

ابدأ الآن في تطوير هذه العوامل ، و سوف تجد أنك قد بدأت بالفعل في التفاعل مع العالم من حولك بشكل أفضل ، و في وقت قصير .

* المقال مستوحى من مجموعة قراءات

* اللوحة للفنان محمد حجي

10 أكتوبر 2009

مصطفى محمود و لغز الحياة

مصطفى محمود نشأت في بيت به مكتبة كبيرة ، في الواقع كانت هناك أكثر من مكتبة واحدة ، و كانت الكتب الكثيرة تغريني منذ طفولتي أن أحاول أن أقرأ ما تيسر لي منها ، فكنت أكتشف في كل مرحلة كتب جديدة ، تلك الكتب التي أصبحت في متناول عقلي .

كانت كتب الدكتور مصطفى محمود تحتل جانبا هاما من الكتب التي استكشفتها في سنين قراءتي الأولى ، و ظللت أحاول قراءتها سنين حتى تفتحت في عقلي الصغير بعضا من معانيها الكبيرة .

كان بعضها من كتبه الشهيرة مثل حوار مع صديقي الملحد ، و رحلتي من الشك إلى الإيمان ، و بعضها أقل شهرة و لكنه أكثر إلغازا و تعقيدا مثل رأيت الله ، و الوجود و العدم ، و لغز الموت ، و لغز الحياة ، و السر الأعظم .

عشت من خلال هذه الكتب مع شخصيات عجيبة مثل محمد بن عبد الجبار النفري ، و جلال الدين الرومي ، و ابن عطاء الله السكندري ، و غيرهم ، و قرأت نصوصا ملغزة من المواقف و المخاطبات ، و المثنوي المعنوي ، و الحكم العطائية ، و كانت هذه فاتحة لقراءتي الكثير من الكتب و لكثير من المؤلفين الكبار الذين تعرفت عليهم فقط من خلال كتب دكتور مصطفى محمود .

في وقت ما منذ نحو عشرين عاما قررت أنا و صديق لي – في ظل انبهارنا بكتابات الدكتور مصطفى محمود – قررنا أن نقرأ كل ما كتب ، و بالفعل بحثنا عن قائمة كتبه و جمعنا كل ما لدينا منها ، و وجدنا أنه ينقصنا أن نشتري نحو أربعين كتابا له ، و لأننا كنا طلبة و لم نملك المال الكافي اتفقنا على أن يشتري كل منا نصف هذه الكتب ، و أن نتبادلها فيما بيننا لنتمكن من قراءتها جميعا ، و ذلك على مدى نحو العامين ، و بالفعل استطعنا أن ننفذ هذا المشروع لنقرأ كتبا مثل القرآن محاولة لفهم عصري ، و الروح و الجسد ، و حقيقة البهائية ، و الشيطان يحكم ، و نقطة الغليان ، و غيرها الكثير ، فيما عدا عدد محدود من الكتب كانت ممنوعة من التداول في ذلك الحين مثل كتاب الله و الإنسان .

تعلمت من هذه الكتب الفكرة الفلسفية للنظرية النسبية لأينشتين ، قبل أن أدرس معادلاتها الهندسية بسنين ، و تعرفت على تفسير ماركس للتاريخ ، فقرأت عن الماركسية و نقدها ، و فهمت لماذا انبهر العلم بنظرية النشوء و الارتقاء ، رغم رفض الفطرة و الدين لمسألة اشتراك أصل الانسان مع الحيوان ، و انبهرت بنظرية الأحلام لدى فرويد ، و قارنتها بنظريات يونج و غيره ، و قارنتها بعلم النفس القرآني ، و تفسيره للنوم و الأحلام ، و رأيت قدرة الله في المخلوقات و التاريخ ، و "شعرت" بتفسير لآيات لم أكن أفهمها في القرآن من قبل أن "أقرأ" تفسيرها فيما بعد ، و تأثرت برؤية الإنسان يتأرجح ما بين أعلى مراتبه تارة و بين أدناها تارة أخرى .

برنامج العلم والايمان المقدمه الاصليه ناي محمود عفت
تزامن هذا كله مع برنامج الدكتور مصطفى محمود الأشهر : العلم و الإيمان ، و كان له موعد ثابت يوم الإثنين من كل أسبوع لا تستطيع نسيانه لأن صوت الناي الحزين كان ينبعث في نفس الميعاد من جميع البيوت المحيطة ، فقد كان فقرة أسبوعية ثابتة و مميزة في ذلك الحين .

يرتبط الدكتور مصطفى محمود أيضا في ذاكرتي بصلاة العيد في ساحة مسجد محمود بالمهندسين ، و كانت نقطة تجمع شهيرة ، و أذكر بعض خطب الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله في تلك المناسبة ، كما أذكر الصلاة ليلا خلف القارئ الشيخ محمد جبريل فيما بعد في نفس المسجد .

عندما أتذكر ذلك كله ، لا أستطيع أن أقدر حجم التأثير الذي ساهم به الدكتور مصطفى محمود في تكويني أنا و أمثالي من أبناء جيلي و أجيال أخرى في مصر و غيرها من البلاد ، لا أتمكن من حصر المجهود الذي قام به في مجالات الفكر و العلم و الثقافة و الفن و الخدمات العامة ، لا أتخيل كيف يمكن التعبير عن جميل هذا الإنسان على قراءه و محبيه – فضلا عن رد هذا الجميل ، و ذلك بغض النظر عن اتفاقي أو عدمه مع أي مما عرض من آراء و أفكار .

في نفس الوقت يؤلمني أن يحتضر الدكتور مصطفى محمود في ظل غياب إعلامي (فيما عدا عدد خاص لمجلة الجزيرة الثقافية قبل عام) و رسمي بل و شعبي ، هل هو نكران للجميل أم جهل ؟ عندما يرفض المسئولون المهرولون لخدمة الراقصين و التافهين مد يد المساعدة له أشعر أن خدمته شرف لهم لا يستحقونه ، و لكنه واجب على كل من يحبه .

فهل أطمع أن يكون تكريمه شعبيا بعد أن حرم من تقدير الدول و النخب ؟ هل كثير عليه أن يموت وسط ذكر أحبابه له ؟ هل يكثر على أمثاله أن يدعو له كل من تعلم منه حرفا ، أو أن يتبع جنازته عند وقوع قضاء الله ؟ أسأل الله أن يشفيه و يغفر له ، و أتمنى أن أرى حملة أقلام تذكره و تذكر الناس به ، فالجحود سمة البخلاء .

إن كنت تملك مدونة و قراءا فاكتب عنه بعض الأسطر ..

و إن كانت لديك قائمة بريدية فأرسل لأصدقائك شيئا من أخباره ، أو مقالا تحدث عنه ..

و إن كنت قد قرأت له أو رأيت برنامجه فادعو له ، أو قم بزيارته ..

و لا تكن ناكر للجميل كمن يوزعون الجوائز الملوثة فقط على محترفي صيد الجوائز .

جروبات الدكتور مصطفى محمود على الفيس بوك :

جروب 1 ، جروب 2 ، جروب 3 ، صفحة 1 ، صفحة 2 ، صفحة 3


** تحديث : توفي إلى رحمة الله الدكتور مصطفى محمود صباح اليوم السبت 31 أكتوبر ، إنا لله و إنا إليه راجعون ، أسأل الله تعالى أن يكون تكريمه في الفردوس الأعلى ، و أن يستثمر الناس علمه بالشكل الأمثل ليكون صدقة جارية له بعد وفاته .

03 أكتوبر 2009

سقوط الأقنعة

قلت لصديقي أثناء خروجنا من أحد بوابات الحرم المكي : لقد اكتشفت أن رحلة الهجرة إلى الله متمثلة في الحج أو العمرة تدفع الإنسان دفعا ليكتشف حقائق الحياة ، و لتسقط من أمام عينيه جميع الأقنعة .

قال صديقي : إن الحج رحلة فريدة ، فهي رحلة إلى الله ، يكون الإنسان فيها في قمة السمو الروحي و الأخلاقي ، و هو مؤتمر سنوي دعا إليه رب البشر ، فهو اجتماع في أشرف البقاع من أجل تحقيق أشرف الغايات ، و في أشرف الأوقات .

قلت له : إن الإنسان يشعر بشعور غريب و هو يعيد اكتشاف نفسه هنا ، و هو يتحرك بدافع غامض يخرجه من كل ما ألفه في حياته .

قال : إن هذا الشعور الغامض هو شعور حب و أمان ، أنت تشعر أنك خرجت لأن أحدا قد دعاك ، و أنه ينبغي عليك أن تذهب ، أنت لا ترى وجه الداعي أو تسمع صوته ، غير أنك واثق أنه قد دعاك ، و ينبغي أن تلبي .

إنه هوى في القلب لا يعرفه إلا من ذاقه ، يتحدث أهل الهوى عن الحب من أول مرة ، أما هذا فحب قبل المعاينة ، ترى هذا الهوى فرحا في وجه من وفقه الله فتحرك لأداء الشعيرة ، و تراه أيضا في دموع انحدرت على وجنتي من حيل بينه و بينها .

سقوط الأقنعةو انطلاقا من هذا الفهم رحت أرصد خلال رحلة العمرة هذه الأقنعة و هي تسقط أمام عينيّ الواحد تلو الآخر :

قناع البراءة

مع مرور الوقت بالإنسان يعتاد أخطاءه ، و يظن أن عيوبه و خطاياه صغيرة ، فيتشاغل عنها ، و يقنع نفسه بأنها بسيطة و يمكن علاجها حينما يريد ، و يعزي ما يقع فيه من مشاكل إلى الآخرين و الظروف متناسيا أنه غفل عن إصلاح نفسه في المقام الأول ، و هكذا يتحول إحساسه بالبراءة إلى مشكلة مزمنة لا حل لها .

قناع الاستقرار

هو الظن بأن الحياة ستظل دائما كما هي الآن ، فيرسم الإنسان صورة مستقبله بفرض امتداد جميع الخطوط على استقامتها ، و هو في هذا ينسى أن التغيير هو سنة في الحياة ، و أن الاستقرار ما هو إلا أمل زائف . و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، و ما تدري نفس بأي أرض تموت .

قناع الألفة

يظن كل إنسان أن ما ألفه في حياته هو الصحيح ، و يعيش يرتب خططه حسب هذه الألفة ، بل و يتوقع من الآخرين أن يتحركوا وفقا لمعاييره الخاصة ، و يستنكر أن يرى سلوكا أو قولا يخالف ما ألفه ، رغم أن اعتياد كل منا لما يعرفه لا يعني في الواقع كثيرا بالنسبة للآخرين .

قناع الأهمية

يعمي الإنسان الظن بأن ما يفعله لازم و ضروري لاستمرار الحياة ، بل و يعتقد أن رزقه و رزق الآخرين متوقف على مجهوده ، كذلك يعتقد بأن غيابه عن محيط عمله أو أسرته أو أصدقائه سوف يتسبب في شلل الحياة ، ثم يفاجأ بأن الحياة تستمر في حال وجوده كما في حال غيابه ، فيفقد إحساسه بالأهمية معناه .

قناع السببية

إن الظن بأن الأسباب الظاهرة هي ما يحرك الأحداث يجعل الإنسان ينسى مسبب الأسباب ، رغم أن كل منا قد رأى في حياته ما يثبت أن الدواء في ذاته لا يشفي ، و أن المال لا يغني ، و أن أسباب السعادة قد تشقي ، بل أننا عندما تنقطع بنا الأسباب نلجأ لمن ينجينا بلا أسباب ، و رغم ذلك كله يمنعنا قناع السببية من استخدام التوكل بشقيه الأخذ بالأسباب و الطلب من الله .

قناع القرب

قد يرتبط الظن بقرب و بعد الأشخاص بمقدار التعامل اليومي معهم ، و ذلك بالرغم من أن الحب قد ينشأ بين من تمتد بينهم المسافات ، و لا يلتقون إلا بعد سنوات ، إلا أن اختبار البعد المادي يجعل الإنسان يعرف فعلا من يحبه في مصلحه ، و من يحبه في الله .

قناع الفهم

إن الظن بأنك تفهم ما يدور حولك بغض النظر عن التفكر في السنن الكونية التي تحكم العالم هو تفكير قاصر ، و يمكن لكل منا أن يضع التصورات و الأفكار الخاصة به لفهم تطور الأحداث و تحرك الأشخاص و تغير العلاقات ، إلا أنه يجب أن يفهم أيضا أن فهمه يظل قاصرا ما لم يحط بسنن الله في الأفراد و المجتمعات و التاريخ .

و بعد ، أجد هذه الأقنعة و غيرها تفرض نفسها مع كل غفلة و نسيان ، أجدها تفسد على الناس حياتهم ، و كلما اكتشفت أحدها على عينيّ أرى الدنيا من خلاله أحاول أن أتذكر رحلة سقوط الأقنعة ، و أحاول أن أعود من رحلتي بلا أقنعة .

 

* اللوحة للفنان محمد حجي