فيما بين الركعات ، و بينما كنا نستعد للدخول في الصلاة التالية ، و في انتظار الإمام ركزت بصري في موضع السجود ، استجلابا للخشوع ..
في هذا الوضع لم ألاحظ إلا صفوف المصلين من حولي ، الصف الموجود أمامي مباشرة ، و ما أمامه من صفوف ، و الصف الذي أقف فيه .
في هذه اللحظة ارتفعت بعيني خيالي لأنظر إلى صفوف ممتدة بامتداد البصر ، لم تعد صفوف الصلاة من حولي محددة بحدود المسجد ، لقد تخيلت أن صفوف مسجدي امتدت لتلتصق بصفوف مسجد مجاور ، ثم تمازجت الصفوف بين جميع مساجد المنطقة ، تماما كما تتمازج أصوات الآذان بين المؤذنين ، لا يعرف هذا الإحساس إلا من يعيش في مدينة بها آلاف المآذن كالقاهرة .
التصقت قدميّ و أكتافي بمن حولي بالصف ، أشعر بوحدة مع من يصلون من حولي ، لم يعد كل منا فرد ، و إنما نحن جماعة ، نتجه كلنا اتجاه واحد ، و لهدف واحد .
كنت أفكر أن هذه الصلاة يشترك فيها معنا أهل بلدي جميعا ، أرى الصفوف الآن تتشابك بين جميع أحياء مدينتي ، و المدن الأخرى من حولها ، الجميع يغرق في صلاة واحدة ، و الصفوف تمتد بعيدا ، أبعد من أن يحتويها بصري .
يستوي الصف بعدما تحرك كل منا حركة طفيفة ، كل منا تخلى عن موقعه الأصلي في سبيل صف واحد ، لم تكلفنا هذه التسوية سوى أن يلين كل منا في يد أخيه ، هناك من لا يدرك هذا المعنى ، و لكن المسئولية مشتركة بيننا جميعا .
كانت الصفوف الآن تمتد لتشمل جميع الأقطار المسلمة ، و لتشمل أيضا أقليات منعزلة ، تحاول أن تنتظم معنا في نفس الصلاة رغم بعدها ، و كانت بعض الصفوف خلف جدران عازلة ، بعضها يصطف تحت الدبابات ، و بعضها يدوي من حولها صوت القذائف .
حصلت بعض الصفوف على تصريح من قوات احتلال أجنبية على الدخول في الصلاة ، و فرضت صفوف أخرى نفسها بالرغم من أنف حاكمي بلادها .
كانت صفوف المسجد الأقصى في القلب من الصلاة ، و حنت القلوب لصفوف مسجد الرسول ، و كان الصف الأول في أشرف مكان في المسجد الحرام .
عندما فكرت في اختلاف الأعمار و اللغات و الأحوال و الأفكار بين جيراني في صلاتي ، تذكرت الموعد السنوي الذي يوحدنا كل عام ، بدأت أرى من حولي وجوه اعتدت أن أراها في صلاتي و افتقدتها هذا العام ، رأيت في صلاتي أصدقاء غابوا من المكان ، و لكنهم يصلون في مكان آخر ، و رأيت أصدقاء غابوا عن الدنيا ، و لم ينقطع عملهم فيها .
رأيت أبي الذي رحل عن دنيانا منذ سنين طوال ، و رأيت أبيه الذي لا أذكر تفاصيل حوار بيني و بينه ، بل رأيت إخوة لي سبقوني في الإيمان لم أعاصرهم ، دعوا لي في صلاتهم هذه ، و أدعو لهم أنا أيضا في صلاتي ، رأيت الغزالي و ابن رشد متجاوران في الصف رغم خلافهما ، و رأيت أئمة ، و أولياء ، و تابعين .
رأيت بعيني خيالي الصفوف الأولى في الزمان ، في مسجد صغير مغطى بسعف النخيل ، و مفروش بالحصباء ، تزدهر بالصحابة ممن يحمل التاريخ لكل منهم موضعا خاصا ، و لا إمام لهذه الجماعة إلا واحد فقط ، إمامنا جميعا صلى الله عليه و سلم .
توحدت في الجماعة ، ذبت فيها ، لم أعد أشعر بفرديتي و خصوصيتي ، أصبحت لونا صغيرا في لوحة عملاقة ، لوحة هي الأمة .
أفقت على صوت الإمام يدخل في الصلاة ، اعتدلت في وقفتي و أنا أتمتم "إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون" .
الله أكبر
* اللوحة للفنان محمد حجي
تحديث : أصداء تراويح ما أحلى الجماعة في مدونة اه منك يا دنيا