20 سبتمبر 2008

تراويح

تراويح 1

فيما بين الركعات ، و بينما كنا نستعد للدخول في الصلاة التالية ، و في انتظار الإمام ركزت بصري في موضع السجود ، استجلابا للخشوع ..

في هذا الوضع لم ألاحظ إلا صفوف المصلين من حولي ، الصف الموجود أمامي مباشرة ، و ما أمامه من صفوف ، و الصف الذي أقف فيه .

في هذه اللحظة ارتفعت بعيني خيالي لأنظر إلى صفوف ممتدة بامتداد البصر ، لم تعد صفوف الصلاة من حولي محددة بحدود المسجد ، لقد تخيلت أن صفوف مسجدي امتدت لتلتصق بصفوف مسجد مجاور ، ثم تمازجت الصفوف بين جميع مساجد المنطقة ، تماما كما تتمازج أصوات الآذان بين المؤذنين ، لا يعرف هذا الإحساس إلا من يعيش في مدينة بها آلاف المآذن كالقاهرة .

التصقت قدميّ و أكتافي بمن حولي بالصف ، أشعر بوحدة مع من يصلون من حولي ، لم يعد كل منا فرد ، و إنما نحن جماعة ، نتجه كلنا اتجاه واحد ، و لهدف واحد .

كنت أفكر أن هذه الصلاة يشترك فيها معنا أهل بلدي جميعا ، أرى الصفوف الآن تتشابك بين جميع أحياء مدينتي ، و المدن الأخرى من حولها ، الجميع يغرق في صلاة واحدة ، و الصفوف تمتد بعيدا ، أبعد من أن يحتويها بصري .

يستوي الصف بعدما تحرك كل منا حركة طفيفة ، كل منا تخلى عن موقعه الأصلي في سبيل صف واحد ، لم تكلفنا هذه التسوية سوى أن يلين كل منا في يد أخيه ، هناك من لا يدرك هذا المعنى ، و لكن المسئولية مشتركة بيننا جميعا .

كانت الصفوف الآن تمتد لتشمل جميع الأقطار المسلمة ، و لتشمل أيضا أقليات منعزلة ، تحاول أن تنتظم معنا في نفس الصلاة رغم بعدها ، و كانت بعض الصفوف خلف جدران عازلة ، بعضها يصطف تحت الدبابات ، و بعضها يدوي من حولها صوت القذائف .

حصلت بعض الصفوف على تصريح من قوات احتلال أجنبية على الدخول في الصلاة ، و فرضت صفوف أخرى نفسها بالرغم من أنف حاكمي بلادها .

كانت صفوف المسجد الأقصى في القلب من الصلاة ، و حنت القلوب لصفوف مسجد الرسول ، و كان الصف الأول في أشرف مكان في المسجد الحرام .

تراويح 2 عندما فكرت في اختلاف الأعمار و اللغات و الأحوال و الأفكار بين جيراني في صلاتي ، تذكرت الموعد السنوي الذي يوحدنا كل عام ، بدأت أرى من حولي وجوه اعتدت أن أراها في صلاتي و افتقدتها هذا العام ، رأيت في صلاتي أصدقاء غابوا من المكان ، و لكنهم يصلون في مكان آخر ، و رأيت أصدقاء غابوا عن الدنيا ، و لم ينقطع عملهم فيها .

رأيت أبي الذي رحل عن دنيانا منذ سنين طوال ، و رأيت أبيه الذي لا أذكر تفاصيل حوار بيني و بينه ، بل رأيت إخوة لي سبقوني في الإيمان لم أعاصرهم ، دعوا لي في صلاتهم هذه ، و أدعو لهم أنا أيضا في صلاتي ، رأيت الغزالي و ابن رشد متجاوران في الصف رغم خلافهما ، و رأيت أئمة ، و أولياء ، و تابعين .

رأيت بعيني خيالي الصفوف الأولى في الزمان ، في مسجد صغير مغطى بسعف النخيل ، و مفروش بالحصباء ، تزدهر بالصحابة ممن يحمل التاريخ لكل منهم موضعا خاصا ، و لا إمام لهذه الجماعة إلا واحد فقط ، إمامنا جميعا صلى الله عليه و سلم .

توحدت في الجماعة ، ذبت فيها ، لم أعد أشعر بفرديتي و خصوصيتي ، أصبحت لونا صغيرا في لوحة عملاقة ، لوحة هي الأمة .

أفقت على صوت الإمام يدخل في الصلاة ، اعتدلت في وقفتي و أنا أتمتم "إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون" .

الله أكبر

* اللوحة للفنان محمد حجي

تحديث : أصداء تراويح ما أحلى الجماعة في مدونة اه منك يا دنيا

13 سبتمبر 2008

مادة الحلم

مادة الحلم

التليفزيون

أنا من الجيل الذي ولد أمام شاشة التليفزيون ، اعتدنا وجود هذا الجهاز كجزء من حياتنا يدخل في نسيج الطقوس اليومية ، في فترة الطفولة كانت هناك أشياء تفقد طعمها ، بل تفقد معناها إذا غاب التليفزيون ، أما الآن – و رغم اكتساب التليفزيون أبعاد جديدة من خلال التنوع الهائل في قنوات البث و المواد المذاعة – فقد التليفزيون نفسه معناه بالنسبة لي .

في فترة تكون الوعي الأوَلي في طفولتي ، في تلك الفترة التي أحسست فيها كأني كنت أحلم ، و بدأت أتيقظ لما حولي ، في تلك الفترة كنت أندهش من التليفزيون ، و رغم اعتياده أظن أن كل الصغار اندهشوا بشكل أو بآخر لما يروه داخله ، و بالنسبة لي كنت أحاول أن أعرف كيف يحدث ما أراه أمامي داخل التليفزيون ، و لم ترضيني كل التفسيرات التي سمعتها ، بالنسبة لي كانت المعضلة الرئيسية هي المادة التي تتكون منها الصورة داخل هذا الصندوق .

كنت أريد أن ألمس الصور التي أراها خلف زجاج التليفزيون ، بدت لي هذه الطريقة الوحيدة للتيقن من كنه و ماهية ما أراه ، و كان التحدي في الوصول إلى ما وراء الزجاج .

كنت أختلس النظر من خلال الفتحات في ظهر الجهاز ، و أحاول أن أبحث عن أي فتحة تسمح بدخول يدي لألمس تلك المادة الحلم ، و باءت كل محاولاتي بالفشل ، حتى تلك اللحظات النادرة التي كنت أرى فيها التليفزيون مفتوحا لإصلاحه لم تكن ترو غليلي .

لم يبق من هذا الفضول سوى عادة أن أربت على زجاج التليفزيون أثناء مروري بجانبه لعلي أجد فتحة تقودني إلى الداخل !

الحلم

ما فاق فضولي بجهاز التليفزيون في طفولتي ، كان فضولي تجاه الأحلام التي أراها و أنا نائم ، تلك الأحلام التي أعيش فيها و أتخيل أنها حياتي الحقيقية ، ثم أصحو لأكتشف أنها أحلام .

ما هي الأحلام ؟ سؤال لم أجد له إجابة عند الكبار . و كيف نذهب إلى تلك الأماكن التي نراها في الحلم ؟ و كيف نرى أشياء لم نعرفها من قبل ؟ و كيف يكون الحلم بهذه الدقة ، و الجمال أحيانا أو الرعب أحيانا أخرى ؟

أسئلة عديدة لم أجد لها أجوبة ، حتى عندما كبرت قرأت عنها نظريات ظنية ، و لا علم يقيني حولها أبدا ، و من أكبر الأسئلة التي أرقت طفولتي كانت عن حدود الحلم : كيف أعرف أنني أحلم ؟ و كيف أتأكد أنني الآن في الحقيقة ، و ليس الحلم ؟ و ما الفرق بينهما ؟ ثم تعود دورة الأسئلة من بدايتها .

عندما كنت أصحو و أنا أحس بحلاوة في فمي ، أو أتلمس بيدي شيئا ما مازلت أحس بملمسه من الحلم ، أو أسترجع نداء مازال صداه يتردد في أذني ، في تلك اللحظات بين الحلم و اليقظة كنت أحاول أن ألمس و أكتشف مادة الحلم نفسها .

الحياة

مادة الحلم 2 و أنا في المرحلة بين الطفولة و الشباب حدث أن سمعت الشيخ في المسجد يقول الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .

أيقظت هذه الكلمات فضولي القديم في اكتشاف الفارق بين الحلم و الحقيقة ، و حاولت أن أفهم المعنى المقصود ، و عرفت أن هذه الكلمات تنسب لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، و أخذت أتساءل أسئلة كثيرة ..

ترى هل الحياة من حولنا حقيقة ، أم أن ما نراه حولنا من مظاهر هي من صنع مادة الحلم أيضا ؟ العلم يقول أن الألوان التي نراها لا وجود لها إلا من خلال ترجمة المخ لأطوال موجية مختلفة كالشفرة ، و أن الطعم و الرائحة ما هي إلا شفرات كيميائية بالمثل ، و كذلك كل ما نرى و نسمع و نلمس ليس إلا ترجمة حواسنا المحدودة لواقع مختلف تماما .

من ناحية أخرى تختلف حياة المشاعر عن كل مظاهر الحياة المادية ، فيمكن أن تمر بنفس الأماكن و الأشخاص و تراهم و تفهمهم بشكل مختلف تماما كلما اختلفت حالتك النفسية ، فما الحقيقة ؟

و ماذا عن الروح ؟ إننا نؤمن بالغيب كله و لا نراه ، و نعلم أن الحياة كما نعرفها فصل واحد من رواية طويلة تتعدد فصولا ، و من مات لا يعود ليخبرنا بما رأى من فصول جديدة ، و لا نرى لمحات منها إلا من خلال إيماننا بالغيب .

إذا ما هي الحقيقة ؟ هل يأتي اليوم الذي أنتبه فيه و أكتشف أن كل ما عشته و كل ما فعلته كان حلما ؟ ترى أين مكاني الحقيقي ؟ ما هو مصيري ؟ هل أحسنت الاختيار أم أسأته ؟

قرأت آلاف الكتب لأعرف الحقيقة بشكل يقيني ، و كأنني طفل يختلس النظر لما وراء زجاج التليفزيون ، و خذلتني مكتبتي ، فلا أجد ملجأ لي سوى الإيمان ، و أتذكر "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" .

...

أربت على زجاج التليفزيون أثناء مروري بجانبه كالعادة ، أبتسم و أنا أفكر أن هذا التليفزيون – مثل كل شيء آخر أعرفه – صنع من مادة الحلم .

 

* شكر خاص للفنان محمد الشناوي على لوحة مادة الحلم .

06 سبتمبر 2008

اتبعني من فضلك

اتبعني من فضلك كنت شابا في مقتبل حياتي العملية ، و كان شيخا يقترب من سن المعاش ، و كان قد تقاعد من عمله بالفعل .

كنت أبحث عن مكاني في الحياة ، و كانت لدي آمال عريضة ، و لم أكن أدري ما الذي ينتظرني ، و لكنني كنت على استعداد لعمل المستحيل من أجل تحقيق أحلامي ، و في المقابل كان هو قد خبر الحياة ، و فهم آلياتها ، و بينما كنت أنا أجرب لأتعلم ، كان هو يعرف ما الذي يجب عمله و كيف و متى .

لم تكن هناك أي عوامل مشتركة بيننا عندما التقينا سوى الجيرة ، و بالرغم من ذلك تولدت علاقة جميلة استمرت سنوات ، و كانت تحمل بالإضافة للحب من ناحيتي الاحترام و التقدير الفائق ، في مقابل أبوة و عطف و توجيه من ناحيته .

و العجيب أنه كان يتعامل مع الكثير جدا من الناس ، و يحتفظ مع كل منهم بعلاقات متميزة و خاصة جدا ، و لهذا كان أقرب إلى شخصية عامة ، و مع ذلك كان تعامله الشخصي مع كل من معارفه يجعله شخصا مميزا و أثيرا لدى كل منهم .

...

اتبعني ذات يوم بينما كنت أستعد بأقصى سرعتي للذهاب لعملي ، و كان لدي من المشاكل ما يجعل ذهني مشغولا للغاية ، سمعت ضوضاء غير مفهومة ، و لاحظت حركة غير عادية في المنطقة المجاورة لمنزلي ، و إذا بميكروفون المسجد المجاور يعلن أن صلاة الجنازة ستصلى على صديقي الكبير .

لا أستطيع أن أصف مشاعري حينئذ ، غير أنني و فيما يشبه الذهول أخرت مواعيد عملي ، و أسرعت لحضور صلاة الجنازة ، و فاضت صلاتي بمشاعر الفقد ، و الرغبة في تحميل دعائي رسائل أخيرة إلى الفقيد نفسه ، و لكن حسن ظني بالفقيد جعلني أتيقن من رحمة الله التي تغمره الآن ، و تحول حزني إلى تسليم تام بقضاء الله ، و دعاء باللقاء في مستقر رحمة الله تعالى .

انصرفت إلى عملي بعد صلاة الجنازة و أنا مشوش الذهن ، و كانت الصورة التي لا تفارقني عدد الحضور في صلاة الجنازة ، كيف تجمع كل هؤلاء في غير موعد صلاة أثناء النهار ؟

...

من فضلك بعد مرور سنوات على حدوث هذا الموقف ، و منذ يومين فقط و في أثناء حديثي مع صديق عزيز لدي ، علمت أنه و صديق آخر كانوا قد حضروا صلاة الجنازة أيضا ، و بعد انقضاء صلاة الجنازة عرف الناس أن مكان الدفن بعيد جدا ، قد تمتد رحلة الذهاب فقط إلى خمسة ساعات ، مما يعني أن إتباع الجنازة و العودة يعني انقضاء اليوم كله ، مع المشقة في هذا .

جاء أحد الصديقين يبحث عن الآخر ، و دار بينهما هذا الحوار القصير :

- حاتعمل إيه ؟

- مش عارف ، المسافة محتاجة تفكير ..

- بس الميت مش محتاج تفكير .

- صح ، يالا بينا .

و هكذا حسم الأمر سريعا ، و فازا بقيراط آخر من الحسنات ، و مر اليوم كغيره من الأيام .

و بعدما سمعت هذه القصة تساءلت في نفسي ، ترى هل كان أي من الصديقين سيتبع الجنازة لو لم يدر هذا الحديث القصير ؟ ترى هل كنت سأتبعها لو كان هذا الصديق قد سألني أنا ؟

لست أدري على وجه اليقين ، و لكن الأكيد أنني أتمنى لو كنت تبعتها ، و أتمنى أن أكون عونا على الخير ، و أن أجد دائما على الخير أعوانا .

 

* اللوحة للفنان محمد حجي