كان الوقت نهارا ، و حركة العالم على أشدها ، و كان هو في القلب من هذه الحركة ، لم يدع في هذا اليوم نشاطا إلا و قام به ، و بدا له كأنما امتلك مفاتح القوة .
بدأ الأمر بسيطا ، ثم اشتد ، أوحى لنفسه أن كل شيئا طبيعيا ، استكمل يومه بنفس الهمة ، و في لحظة واحدة تهاوى .
لقد مر بوعكة صحية ، جعلت من حوله يندهشون كيف لم يشعروا بها قبل حدوثها ، لم تكن هناك مقدمات ، و كان هو صاحب النصيب الأكبر من الدهشة .
مرت عليه لحظات من الألم ، شعر خلالها بالضعف و الحاجة إلى المساعدة ، بحث في ذهنه عن إحساسه السابق بالقوة ، أخذ يتساءل عن أسبابه ، و لكنه لم يجد أيا من هذه الأسباب ، ما كانت القوة إلا مظاهرا و غرورا .
في أثناء تعبه مرت بذهنه خاطرة غريبة : "ترى هل أموت؟" ، لم يكن الأمر يستوجب ، و قال لنفسه : "لا أعتقد أن النهاية ستبدو كذلك" ، و لكنه في الواقع لا يدري كيف ستبدو النهاية ، و خطر له شيء آخر : "عندما تأتي لحظة الموت ، أتمنى ألا أمر بنفس هذا الإحساس من التعب و الألم" ، و لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن لحظة الموت ستكون أشد وطئا .
أحس أن المرض أشبه بالوقوع في البحر من على سفينة ، يناضل في البحر من أجل الحياة – مجرد الحياة ، يناوشه الغرق ، و ينهكه الصراع ، و عندما تمتد له يد المساعدة ، فتنتشله قوارب النجاة ، أو يصل إلى بر الأمان ، يحس وقتها أنه فاز و نجا من الكرب العظيم .
ترى إن أقبلت ساعة النهاية ، هل سيكون عليه أن يفكر في هذه الأشياء ؟ أم أنه سينشغل بأمور أخرى ؟
...
"ليس هناك داع للقلق" ، قالها الطبيب ، و معها إرشادات العلاج ، إلا أنه مطالب بالتوقف ، و التقاط الأنفاس ، تساءل بقلق : "و لكن هذا يعني البقاء في الفراش!" ، و لم يكن لدى الطبيب استعداد للتفاوض في هذا الشأن .
...
أحيانا يفتقد الإنسان التوازن فيندفع في بعض جوانب حياته ، و يهمل جوانب أخرى ، فيسبب ذلك الاندفاع اختلالا في الحياة كلها يفقده الاتزان ، و يسلبه الاختيار .
و رغم ذلك يكرر الإنسان هذا ، و ينسى أن لديه في النهاية قدرات محدودة ، و عليه أن يسير في حياته وفقا لأولوياته ، و عليه أن يسعى ما وسعه السعي ، و ليس عليه إدراك النجاح في كل نواحي الحياة ، و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
قد يركن البعض منا إلى الراحة و الدعة ، فيخسرون كل هدف في الحياة ، و البعض الآخر منا قد يستنفذ طاقته و حياته في الجري وراء الأهداف ، و قد يحترف بعضنا الشكوى و البكاء و الحيرة ، و لا يفلح حقا إلا من استطاع أن يحدد أولوياته ، و أهم أهدافه ، و سعى لها سعيها ، و علم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
...
عندما احتدم الموج من حولي ، و وجدت الماء يسد الطريق بيني و بين الحياة ، نسيت قوارب النجاة ، و يئست من ملامسة قدمي لأرض ، و ابتل قلبي بحزن عميق بعمق البحر ، وجدت اسمك يجري على شفتي ، و لهج لساني بذكرك ، و تذكرت بحارا كثيرة سقطت فيها ، و أنقذتني منها بقوتك و فضلك – بحار مرض ، و بحار فشل ، و بحار حيرة ، و بحار يأس ، و بحار خوف ، و بحار وحدة ، و بحار ألم ، و بحار ضعف ، و بحار ملل ، و بحار غباء ، و غيرها الكثير .
يا رب نجني ، و كن ناصري و معيني ، برحمتك استغيث ، أصلح لي شأني كله ، و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين .
...
بعد انتهاء الوعكة ، و عودة الأمور إلى طبيعتها ، ظل يذكر ما مر به ، و ما عرف من الحق ، و ناجى ربه من جديد :
يا رب قد تجف قدميّ ، و تسرع خطواتي ، و رغم الأرض الصلبة من تحتي ، إلا أنني أعلم أنها ما هي إلا جزيرة وسط البحار المتلاطمة ، و أن اليم ينتظرني ، و ألا مهرب لي منك سواك .
* اللوحة للفنان محمد حجي
* تحديث : إقرأ باب فى نهاية النفق لأحمد عبد العدل ، و وعكة جنة